top of page
  • KYNUNAH

مـســرح الــــــــــرؤى

شكل مسرحي تمتد جذوره من عالم

الأســــطورة والخـــــــــرافــــة


خــاص - كــيــنـــونـــة



إذا كانت الصورة هي فن يعتمد على الفكر والخيال. تتسيد الفنون في تكثيف رموزها. فإن مسرح الصورة يدّعي منذ نشأته بقدرته على خلق أنواع من الصور المادية التي تتفوق على قوة الكلمات. وبقدرته على تحويل الفضاء إلى مادة شعرية. بكل مافي الشعر من صور صعبة ومركبة. وبكل مافي الصورة من معنى، وشعور، وقوة ووصول.


في أواخر القرن التاسع عشر مرت الحركة المسرحية العالمية بعدة مراحل، حيث تنبأ المسرحي الإنجليزي (جوردن كريج) بأن مسرح المستقبل (مسرح بصري) سيخاطب العين والوجدان والأحاسيس عبر الخشبة، واستطاع (كريج) في تجاربه الفنية أن يضع حجر الأساس لانطلاقة مسرح يعتمد على الصورة. وفي نهاية ستينيات القرن الماضي كان المسرحي الأمريكي (روبرت ويلسون) أول من قدم عرضا مسرحيا كاملا ينتمي إلى مسرح الرؤى .

تعد"لغة الصورة" أهم مفردات مسرح الصورة،


وكمفهوم، مسرح الصورة يطال مجمل التيارات الأدبية والفنية، لا سيما ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو مسرح ينقل الحكاية، إلى فضاء العرض. بذلك يدخل في صلب الحداثة مكوناً مايمكن أن نطلق عليه مسرح مابعد الحداثة. ذلك الذي يجنح نحو الذات الحالمة بغية التغيير والابتعاد عن الأطر المسرحية المتعارف عليها. والذي على العكس منها كان يُعنى بفضاء العرض وتشكيلاته السينوغرافية، كما يهتم بتقديم رؤية تنحاز لمفهوم المسرح باعتباره فرصة لتقديم مشهدية تستحوذ على المتلقي، من دون الانحياز للرؤية الحرفية للنص، أو المركزية اللغوية لسرد القصة، بهذا الانحياز لتأثير الرؤية، انفتح العرض على أشكال الفرجة كافة، فحاكى التراث والطقوس كما قدم جماليات بصرية رائعة تحسب للصورة بوصفها، واحدة من أقوى ركائز العرض .

في وقتنا المعاصر يتجلى اسم عبقري كـ روبرت ويلسون كأحد أعظم رواد مسرح الصورة على الإطلاق ومنذ نشأته. إذ يعتمد التجريب بوصفه وعياً وفهماً لحركة الحياة. قامت البروفسورة بوني ماراكانا في كتابها "مسرح الصورة" بتخصيص جزء كبير لأعمال ويلسون محاولة منها للفت انتباه الجمهور لمقدار الإزاحة التي اخترقت النصوض الأصلية لمسرحياته، نحو مسرح الصورة، وكيفية قيام علاقة جديدة بين هذه الصورة وبين المشاهدين. وذلك في إطار تأكيدها على أولوية العرض المسرحي على أولوية الحوار الأدبي في مسرح الصورة.

هذا بالكاد يلقي ضوءا خفيفاً على ماينطوي في في مسرح الصورة، من الشعرية الفائقة. فالشعرية هنا تنحاز للصورة وللحالة الوجدانية أكثر من انحيازها للكلمة. يتوازى مسرح الصورة في هذا مع تجريب المسرح الحداثي حيث يتكثف استعمال المخرج للحركات والإيماءات ، الأيقونات والإشارات والرمزيات ، وعوضا عن استعمال الكلمة واللغة والحوار كما في المسرح الكلاسيكي، يتجلى كل هذا عبر الرؤية البصرية. الأمر الذي يلقي ثقلاً على المخرج، وعلى مقدرة الممثلين على تجسيد العمق المعقد لشعرية الفكرة.

يعرف مسرح الصورة بأنه حزم من الشعر والفلسفة والتشكيل . وبالتالي، فهو مسرح تزدهر فيه السيميائية الحركية الطقوسية. حيث المفردات البصرية ، يتم تحويلها إلى رموز وإشارات وأيقونات دالة تساهم بشكل أساسي في خلق معنى العمل.

فإذا كان الترميز هنا ومفردات العرض تقع على عاتق المخرج فإن السينوغرافيا التشكيلية بعمقها الفني وبالتطور المذهل لأدواتها المعاصرة، تأتي توأما فريدا وممثلاً رئيسيا أولا من شأنه الاستحواذ على المشاهد في دور هو خلاصة غرض العرض إن صح التعبير. على أية حال، تم ربط مسرح الصورة ومنذ بداياته بنوع من السينوغرافيا الشاعرية والتي تعتمد على إيحاءات الشعر وفضاء الأدب والصور الفنية الموحية التي تتضامن لخلق مساحة تتشابك فيها العلامات اللغوية الانزياحية والعلامات البصرية الأيقونية،. هذه السينوغرافيا التي تزدهر في الفضاء المفتوح للمكان الذي وغالباً لا تحده حدود، أو تقف في بعث جغرافيته التخيلية أي سمات للتقليدية الهندسية، فعملية السينوغرافيا هنا تقوم على إفراغ المكان من علاقاته ومكوناته التقليدية. هذه التركيبة من العناصر الرمزية والفضاء التخيلي غير المحدود جعلت المسرح المعاصر كمكان يتحرر من كل المعطيات البديهية. ويقترح تكوينات جمالية ذات تأثير جمالي في غاية الاتقان.

مسرح الصورة يطرح في وجوده أسئلة جوهرية: مالذي سيحدث وينتج بتغير النظرة الكلاسيكية للمسرح؟. مالذي سيحدث حين يأخذ المؤلف المسرحي دوراً موازياً لبقية الأدوار لا يتفوق ولا يتمركز. في المقابل مالذي سيحدث بممارسة المخرج الدور الأبرز!. مسرح الصورة في تجليات رؤاه يجيب: ستتجاوب الابتكارات الفنية والصناعية والتكنولوجية، مع الدور المحوري للمخرج. ليصبح الهدف الأسمى له، هو‮ ‬إشاعة الانسجام‮ ‬الفني‮ ‬في‮ ‬كافة أجزاء العرض المسرحي‮. سيصبح المسرح معتمداً بشكل محوري على المشاعر والأحاسيس والوجدان‮،‮ يتراجع السرد القصصي وتنشأ نقطة اتصال حميمية جديدة لمشاهدة العرض ،‮ ‬هي الإحساس‮ ‬،‮ ‬حيث للصورة محملة بقدرة شعورية تمكنها من ‬الولوج إلى‮ ‬أعماق النفس الإنسانية‮ ‬. سينتصرالمسرح للمخيلة الإبداعية ويحول أكثر الأفكار تعقيداً إلى واقع ملموس.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬، ومؤثر. ستنتصر الحالة الإنسانية برحابتها. وسيتم التدليل ببلاغة علي‮ ‬الوجود الإنساني‮ ‬بمعناه الأكبر والأعم في شكل تكريس صوره وإيماءاته ورموزه الواسعة والغنية المتراكمة عبر التاريخ. سنرى ‮أن الشخصيات في‮ ‬مسرح الصورة لا تمتلك أبعادا نفسية واجتماعية كما في‮ ‬المسرح التقليدي..نعم، ولكن سيرتفع دور الحلم في بناء المسرح. الحلم الذي ‬ينقلنا من الواقع إلى‮ ‬عالم آخر متجاوزين المنظومة المعتادة للواقع وبلادة المنطق للوصول إلي‮ ‬أبعاد وحالات استثنائية تكشف قبساً من المجهول‮. سيكون للون والخط والكتلة والكثافة والحجم والفضاء المسرحي‮ ‬والعناصر الفنية المتممة للعرض المسرحي‮ ،‮ ‬أهمية كبيرة في تأكيد ميتافيزيقية المكان والشخصيات والحالات والمواقف في‮ ‬الصورة المسرحية إيماءً‮ ‬أو رمزا أو إيحاء. يقول الناقد أشرف عزب: "يعتمد المخرج في مسرح الصورة على ثنائية الذهن (التفكير) والرؤية البصرية:" إن المخرج في مسرح الصورة يفكر، ويرى، ويعرف كيف يرى. إنه يبحث عن أشكال للتجربة مثلما نبحث عن المضامين، ونبحث عن صور للحركة الذهنية، وعن صور للطبقة الخارجية. إنها حالة من التقدم، تقدم وتطور الوعي الذاتي، كما أنها تمثل الجرأة في تكوينات أشكال جديدة." ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ومن هنا، فمخرج مسرح الصورة يحول النص إلى عرض طقوسي أنثروبولوجي حركي ، يقدم من خلاله تجربة سحرية أسطورية حلمية عميقة قائمة على التخيل المفارق والتخييل الإبداعي الغريب والمدهش، فهو في مجموعة رموزه وإشاراته وأيقوناته وسيميائيته ووظائفه الدلالية المتعددة، يقوم بالتركيز على تجسيد أشكال السلوك والأفعال التي تقوم به الشخصيات سواء أكان ذلك التصرف واعيا أم غير واع:" المخرج في مسرح الصورة – إذاً- صانع مبدع للمفردة وقوتها، إنه كاتب خيالات مفعمة بالسحر، خيالات تكشف عن قلق الإنسان، ورعبه الوجودي والاجتماعي."

هذا، ويلجأ مخرج مسرح الصورة إلى تقطيع العرض المسرحي، وذلك بطريقة بنيوية إن هدما وإن بناء ، إن تفكيكا وإن تركيبا، مع خلخلة أحداث العرض المسرحي ، وذلك بطريقة فوضوية قلقة ومحيرة مبنية على التداخل والالتباس بغية تحقيق التجلي الصوفي، دون مراعاة ترابط الأحداث منطقيا وزمنيا، أو مراعاة الوحدة العضوية والموضوعية التي يتسم بها العرض المسرحي الكلاسيكي أو التقليدي.


يقول المخرج صلاح القصب:" إن الدراما السحرية، أو السيميائية- في المعنى الأشمل- ، لا توصل لنا طقوسا سحرية ساذجة، بل توصل لنا شحنة السحر عبر الصورة... الصورة غير التقليدية، وغير النامية بفعل قوانين منطقية، أو وضعية، ولذلك يصبح المخرج الدرامي ساحرا بالمعنى العميق لهذه الكلمة، فهو خلاق مقترحات، وأشكال، وصور متعاقبة تنتج من تلك البئر السرية للسيمياء. يمكن للمسرح أن يضع نفسه في منطقة السيمياء، إذا اعتمد صورا مستحيلة التحقيق بالوصف العادي. إن طبيعة السيمياء هي تفاعل الأشياء مع بعضها بعضا، من دون حدود تعطي صورة عن الدراما المدهشة من خلال الصورة، إن اختلاف الدراما السيميائية عن الدراما التقليدية يكمن في أن الأولى تمنحنا القدرة على مس طقسي قديم، وإضرام النار في صور غريبة (فتيشية وطوطمية) من نبع جمالي لاشعوري، وخلق احتمالات شبه مستحيلة.

إن الدراما السيميائية لا توصل لنا طقوسا سحرية ساذجة، بل توصل لنا شحنة السحر عبر الصورة غير التقليدية، وغير النامية بفعل قوانين منطقية أو وضعية، ولذلك يصبح المخرج الدرامي ساحرا.إن تصيد الصورة سيميائيا، أو سحريا، سيقودنا إلى نمط من بث الروح في الأشياء جميعها، في شقها التشكيلي في التجربة أصلا، وهي تجربة جزئية وتقدمية، لأنها أسقطت ثنائية الفن/ الحياة، وجعلت التشكيل – بوصفه فنا- يصبح ملتحما وملتصقا بالحياة اليومية وبقضايا الناس واهتمامهم، فهي في المقام الأول لم تركز على اللوحة/ الصورة، بوصفها بنية قارة وثابتة، ولكنها ركزت على الفعل(فعل رسم يرسم ونرسم وترسمون). إن المسرح الشعائري- تحديدا- هو الطقس الدرامي المركب للصورة، وإن هذا الأفق ينفتح على السحر والسيمياء بالمعنى الصوري الذي حددناه، كما أن مسرح المرآة تنعكس على مادته صور العالم الضمني(الباطني)، والكوني عامة، ولذلك تتضافر هذه القوى كلها لإقامة دراما شعائرية متعالية."

هذا، ويرتكن مسرح الصورة إلى ثلاث مراحل إخراجية: مرحلة الاكتشاف(اكتشاف حركات البناء الدرامي الفلسفي للنص)، ومرحلة المعالجة والتكوين، ومرحلة العرض( الطقس الاحتفال ). كما أثار صلاح القصب ضمن رؤيته الفنية والجمالية الجديدة على سلطة المؤلف المتراجعة، حيث يصح أن يلغي المخرج ضمن استعداداته 90 ورقة من أصل مسرحية من مئة ورقة ليتبقى من النص عشرة أوراق لاغير، وذلك عن طريق استعمال الشطب والحذف والمونتاج. وقد ثار أيضا على سلطة المخرج التقليدي، وذلك بإحراق دفاتر(سكريبتات) مدير المسرح التي تثبت الحركة. وبالتالي، فقد استبدل المخرج الحرفي والمخرج المفسر بالمخرج المبدع السيميائي الذي يحول النصوص الدرامية إلى علامات بصرية حركية ولونية وتشكيلية. كما ألغى سلطة تقنيي السينوغرافيا بإحراق خرائط وتصاميم المصممين(أزياء- ديكور- إكسسوارات). وألغيت كذلك كلمة الإخراج من قاموس مسرح الصورة، وعوضت بكلمة فرضية الذاكرة، أو ذاكرة الرؤية الصورية، أو فرضيات الصورة.

هذا، ويتسم العمل المعروض في مسرح الصورة بالانزياح والتفكك والهدم والغموض على جميع المستويات، حتى يصعب إدراك العمل من قبل الراصد العادي بسهولة ؛ ذلك لأنه يستفز المتلقي، ويربكه فنيا وجماليا وذهنيا ووجدانيا. ومن ثم، لم يعد عمل المخرج فرديا على مستوى البناء والتشكيل والصياغة والتصوير، بل أصبح العمل جماعيا يشارك فيه كل الممثلين والراصدين.

وهكذا، فقد :" تطورت الصورة – يقول صلاح القصب- ، وتجذرت في أعماق الشعر، ودخلت الآن مرحلة ما أسميه بـمسرح الصورة فرضيات الذاكرة، وهو إضافة ومدخل جديد للصورة... في هذا المسرح سنلغي سلطة ذلك المصطلح الأكاديمي أو ما يسمى بديكتاتورية المخرج، ذلك لأن روح الجماعة بتفكيرها المتعدد وأحلامها المتقاربة والمختلفة في بعض التفاصيل هي التي تعترف بالعمل وتحدد فرضيته. في مسرح الصورة كانت المشاهد والحالات مركبة، أي إنني كنت أنقل- يقول صلاح القصب- الشكل إلى المشاهد مركبا، أما في مسرح فرضية الذاكرة، فإن الصورة مفككة والإيقاع، هو الذي يعيد بناء ذلك التفكك، كما يساهم المونتاج في خلق الألفة والترابط بين هذه الصور والمشاهد، كما أنني أميل إلى استفزاز المتلقي والممثل، وأحفزه على أن يفترض حالات ومواقف مضافة إلى العمل، وتتعرض فرضياته للحذف أحيانا."

ومن هنا، فعمل المخرج في مسرح الصورة عمل سيميائي يقوم على تفكيك الدوال وتركيبها، وذلك للبحث عن آثار المعنى الفلسفي باختيار طريق الحركة والصورة على حساب اللغة الإنشائية والحوار الأدبي.

الباحثة والناقدة العمانية عزة القصابية تقول: "مسرح الصورة يبتغي الإبحار في عالم الحلم والفنتازيا. وهو في رسالته تلك، يشكل صراعًا ثنائيًّا في زمن العرض الفلسفي بين الجمالي (التشكيل البصري) والدلالي (المفهوم الذهني)، إضافة إلى ذلك، فهو يكشف عن أطر فلسفية تتجاوز الإدراك الحسي، ليرسم عالمًا افتراضيًّا قائمًا على الوحدة الدلالية التي تشكل مفردات الفضاء المسرحي).

ودونما شك، يُعد (مسرح الرؤى) تجربة فريدة تحاول مواكبة لغة العصر الصورية في ظل الطفرة الحديثة في مجالات الفنون والآداب والاتصالات، لذا كان حريٍّا البحث عن شكل مسرحي تمتد جذوره من عالم الأسطورة والخرافة والطقس إلى العصر الحديث حيث الذرة والطاقة النووية والصورة الرقمية في عصرنا الحالي. ويظل (مسرح الرؤى) مثار جدل واهتمام لدى النخبة المسرحية المغرمة بحس التجريب التي تبحث عن الجديد والغريب، فهو فن يخاطب الرؤية البصرية التي تتغلغل للبحث في مفرداته في مخيلة المشاهد لتثير فينا الدهشة والتساؤل.


وبالرغم من انتشار هذا النوع المسرحي في الغرب، إلا أنه لايزال ضيفًا لطيفًا على وطننا العربي، حيث يميل السواد الأعظم من الجمهور إلى المسرح الحواري، فما بالك بمنطقة الخليج العربي، حيث لم نشاهد تجارب مسرحية لهذا النوع المسرحي، بحكم حداثة التجربة المسرحية الخليجية، بالإضافة إلى انخفاض شعبية المسرح باستثناء الموسمية فيها. والأهم من ذلك غياب المخرج الذي يمكن أن يتبنى هذا التيار في إخراج مسرحيات تجريبية على غرار (مسرح الرؤى) وأن كانت هناك بعض التجارب الحديثة، إلا أنها تظل في منأى عن مسرح الصورة".


bottom of page