top of page
  • KYNUNAH

عبداللــــه العيافـــــــــ وفن إنشاء نقطة دخـول جذابــة إلى القـصــــة | اللمحة الأولى الـ "مجهرة"

افتتاحية رواية (حفرة إلى السماء)

التي تذكر بروائع الأدب العالمي


خاص - كينونة




"أمام رجال مجهرة وآخرين قدموا من القرى المجاورة كان على تيماء أن تختار: إما أن تتعرى هي أو يتعرى والدها الشيخ الكبير"


هذه هي افتتاحية العياف الأولى في روايته الجديدة ( حفرة إلى السماء). هذه هي الجملة التي لا تُنسى، ليس فقط لأن تركيبتها تحفز الخيال وتشعل الفضول. بل لأنها اللمحة الأولى الـ "مجهرة" حقاً، والتي لايمكن أن تفوتها ولا بأي حال من الأحوال. نتذوق في هذه الافتتاحية معنى تأثير إنشاء نقطة دخول جذابة إلى القصة. توفر كلمة " عري" للعياف هزة غير متوقعة. هذا سطر افتتاحي أول ينادي القارئ ليبدأ القصة. يقول له: صدقني.. أنت تريد أن تعرف المزيد عن هذه المرأة.. عن هذه القرية، عن هؤلاء الرجال، وعن مجهرة.. وعن العري الصادم من أول دخول.

من المعروف أن الرواية الناجحة تتطلب شخصيات مقنعة ، وهيكل قصة محبوك بعناية، ونقاط عقد مثيرة. ومع ذلك ، فإن أحد أهم الأشياء المؤثرة هو الاستهلال الافتتاحي للرواية. فمن الكلمات الأولى لموبي ديك إلى السطور الافتتاحية لهاري بوتر، تستطيع أن ترى كم الجمل الأولى من الرواية لديها القدرة على جذب جيل من القراء. يستخدم الكتاب العظماء جملهم الافتتاحية لتقديم الشخصيات ، وتأسيس الحالة المزاجية ، وإغراء فضول القراء لإكمال تقليب الصفحات.

سطر العياف الأول يملك فرصة مثالية لتكوين علاقة مشوقة مع انتباه القارئ . لايمكن المرور من تلك الجملة دون أن تعلق في شباكها. جملة استهلالية ناجحة عرضت لنا أسلوبه ككاتب، قدمت لنا شخصيته الرئيسية، وضعتها في موقف غير مريح، وقامت بإثبات الحادثة المحرضة في روايته. نعرف من جملته الأولى مزاج "حفرة إلى السماء" وموضوعها. ومركزية الرغبة والخجل والمواقف غير المعقولة فيها. بدأ العياف بتفصيل غريب وجاذب على عدة أصعدة. مكنه من جذب القراء فوراً من خلال تقديم تفاصيل خارقة للعادة. والمثال الكلاسيكي لهذا هو الجملة الافتتاحية لكتاب “المسخ” لفرانز كافكا، والتي كانت بمثابة اتجاه جديدٍ لحياة غابرييل غارسيا ماركيز. يقول كافكا في سطره الأول ‘استيقظ جريجور سامسا من أحلامه المزعجة صباح يومِ ما ليجد نفسه في سريره متحولاً إلى حشرة عملاقة’ “ يقول ماركيز عن هذه الجملة التي يعد سطرها الأول هذا من أهم ماورد في الأدب العالمي: "لقد أعارني أحدّ هذا الكتاب عشوائياً لمساعدتي على النّوم كما أفعل بالعادة، ولكنّ حدث العكس هذه المرة. لم أنم بعدها مطلقاً بسكينتي السابقة". ويضيف: “شعرت بشوقٍ لا يقاوم للعيش في ذلك الفردوس الغريب. يومها تناولت الآلة الكاتبة المحمولة، محاولاً كتابة شيء من شأنه أنّ يشبه بطل كافكا المسكين إذ يتحول إلى صرصار ضخم".

في جملة العياف نلمس الشعور بالخطر بكل هذا الترحيب، كما نلمسه في السطر الافتتاحي لرواية مائة عام من العزلة لماركيز “بعد سنين كثيرة، فيما كان يواجه فصيلة الإعدام، كان على الكولونيل أورليانو بوينديا أن يتذكر عصر ذلك اليوم البعيد الذي اصطحبه فيه أبوه لاكتشاف الثلج” جملة تربط القارئ وعلى الفور بمصير الكولونيل أوريليانو بوينديا. من السطر الأول ، يعرف القراء أن رحلة العقيد ستنتهي مع تحديقه في فرقة إعدام ، مما يوحي بأن قصته هي قصة حياة أو موت. كما تفعل افتتاحية العياف التي من سطرها الأول تكشف لنا عن قصته، عن كونها قصة عن الغرائبية وعن صعوبة الاختيار بشكل أساسي.. قصة عن قرية تحفها الأقاويل بكل ما في "أمام رجال مجهرة" من قلق وجودي لوعي امرأة.

على طريقة الأديب الروسي ايفان بونين حين كتب: “ الجملة الأولى في الرواية الجيدة لها الدور الحاسم، فهي التي تحدّد في المقام الأول حجم العمل وصوته" يأتي حجم عمل العياف وصوته بافتتاحية نستطيع وصفها بـ"عظيمة" فهي تقوم بعمل رائع في خلق عالم حاسم من الغموض، هناك لغز ما حدث. لكن التوتر الأكبر في هذه الفقرة هو كيف لفتاة تحمل اسماً كهذا "تيماء" أن تختار أن تتعرى ! كخيار بديل عن عري أب شيخ!. وضع غرائبي من المحال تصوره. ويحمل طي تعبيره الوعد بقصة كبيرة، كبيرة جداً.

يقول ماركيز: “بحثت عن الجملة الأولى المناسِبة لرواية خريف البطريرك، طوال ثلاثة أشهر”، ويضيف إنّ “أصعب ما في الرواية هو الفقرة الأولى.. في الفقرة الأولى تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية..”. ستبدو هذه الشهادة الصعبة دليلاً على أهمية المفتتح وتساؤل عن المدة التي احتاجها العياف ليكتب هكذا مدخل مذهل.


"أمام رجال مجهرة وآخرين قدموا من القرى المجاورة كان على تيماء أن تختار: إما أن تتعرى هي أو يتعرى والدها الشيخ الكبير"


إذا كان على الجملة الأولى في الرواية الناجحة أن تكون جملة لاتقاوم، تثير الفضول وتعد بالإجابة عن سؤال مُلح. . فإن جملة العياف الأولى تختصر إغواء التشويق، والوعد والصدمة. تنضح بالثقة وبالسلطة وتقول لنا: لقد حاول الكاتب تشجيع القارئ ونجح أيما نجاح في جعله يبقى معه.


bottom of page